اعطونا سُكنة ورجعوها ديكتاتورية

          نحن لا نمارس السياسة لأجل السياسة، وإنما لتحقيق غايات فردية و جماعية مقترنة بفكرة أو مرجعية ما، وأهم هذه الغايات توفير حقوق المواطنين المنتمين لأية أمة، وإن كانت تحت مسمى الإنسانية، بعيدا عن أي تحزب.. ولا يختلف اثنان حول هذه الحقوق المتجلية في ضمان الحماية والاستمرارية لأي كائن عاقل. فهل تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه الحقوق يعني نجاح السياسة وتحقق الديمقراطية؟ أم أن القضية تـُطرَح بشكل مختلف؟

ربما أول ما سأتهَم به الآن ـ من خلال عنوان المقال ـ أني بعت مبادئي بعرَض من الدنيا، وأني ذو مصلحة لا تُعنى بحال الأمة وتحررها‼ لكنني مقتنع جدا بفكرتي وستجدون أنفسكم في طياتها وإن لم تبوحوا بذلك.. فقط لأن العاقل لا يقبل تقديم ناصيته للآخرين حتى يأخذوا بها في مهاوي الغيب والمراهقة السياسية، لنصل بعدها إلى حلقة مفرغة دائمة المطالبة بالتغيير لا لشيء إلا لأجل التغيير، في حين أن كل ما يحتاجه المواطن من حقوق يظل صكّ مبايعة متتابعة طائفة عن طائفة.
بالنظر إلى حركات التحرر التي عرفها التاريخ، نجد أول محركاتها الظلم والحرمان من متاع الدنيا، وهو ما خرّج لنا كل تلك التوابيت من الفلسفات التي تـُبعَـث اليوم منفصلة عن أساساتها، بمعنى أن الثائرين في السابق لم ترمِ بهم خطابات النخبة فحسب إلى الشارع بل جوع بطونهم وخلوّ جيوبهم، هنا طبعا لا ننفي الاستغلال الوحشي من تلك الفئات المتعلمة للقطاعات الواسعة من العامة قصد تحريكهم وفق أهوائهم ونظرياتهم بعيدا عن تبسيط مطالبهم التي لا تجاوز حقوق المأكل والمشرب والملبس والمسكن والانتقال بحرية.
قد يقول أحدكم أن الثورات أعظم من هذه المطالب الاستهلاكية الظرفية، ولكني لا أعرف شخصا خرج متظاهرا من أجل التظاهر، وقدموا له جائزة، عبارة عن لافتات مزينة بعشرات المقولات الحماسية المزركشة، وقطعة أرض يتظاهر بها كل يوم من الشروق حتى الغروب.. طبعا المتظاهرون الذين يضحّون بحياتهم لا يريدون إلا ضمان مستقبل محترم لهم ولأبنائهم، يريدون رؤيتهم على مقاعد الدراسة سعداء، أو على أسرّة المرضى إن اعتلّوا أصحّاء، أو في بيوتهم ومناصب شغلهم في رغد وهناء.. ولن يزيدوا على هذا شبرا إن قنعوا.
والصورة اليوم أكثر وضوحا مما سبق.. لن ترى في رؤوس الفتن والانقلابات إلا المترفين من صالونات الفنادق يزجّون بضعاف الأنفس إلى الخنادق، مالئين عقولهم بأوهام الثورة والجهاد والحور العين، في حين أنهم لا يدركون حتى أحكام الطهارة‼ وهو ما كان في "بروفة" الربيع العربي الذي فشل فشلا ذريعا، فتونس يكفيها ما ينخر جسدها من إرهاب، وليبيا التي كان يصل أبناءَها حقـُّهم من البترول رغدا، يتقاتلون وينحرون بعضهم بعضا قـُربى لـ"حفتر" وزبانيته، ومصر التي لم تعرف أرضها دماء منهمرة كالتي عرفت، ساد "سيسيها" ومحى بطولة ثائرين قالوا لـ"مُرسي" اذهب أنت وحزبك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
أما سوريا الحضارة وكليات الطب، ومراكز تحفيظ القرآن، فأضحت دمارا ليس كمثله دمار، وشعبا مهجرا ليس به وعد "بلفور"، بل "ليفني" وأذيال الخليجيين، وفي لبنان واليمن والسودان، لِنار الفتنة من يُذكِيها، ولصوت الباطل من يُعلِيه..  
هذا ما يريد الشعب
          
لا نفع من ثورات لا تأتي جعجعتها بطحين، الشعب يريد الشغل والسكن والتعليم والصحة وتيسير الزواج ورفع الأجور، وتقريب الإدارة ورفع البيروقراطية، وتعميم الحرية.. صدقوني إن تحققت هذه "الأمنيات" فلن يفكر أحد في تغيير النظام إلا العملاء والخونة، فما نفع التغيير إن كان الشعب في رغد؟؟ بل ما نفع السياسة أصلا حينها؟؟ لا يوجد مواطن مستعد لدفع حياته مجانا للآخرين وهو يرى نفسه في عيشة هنية، عيشة تجعل من أي أمة راضية بزعيمها ولو نصّب نفسه إمبراطورا مدى الحياة.
بقلم / معمر عيساني

تعليقات

الأكثر قراءة