لا تنسوا الإرهاب.. لا تنسوا بوتفليقة

         لا تخلو ذاكرة جزائري واحد من أحداث العشرية السوداء التي شهدتها البلاد وأودت بحياة الآلاف وفقدان المئات من أبناء الشعب المستضعف.. تراجيديا لم يتصورها أي مواطن ممن عاش رغد الثمانينات، واشرأب عنقه لآفاق الديمقراطية بعد انتفاضة الـ1988م، ولكن حدث ما حدث، وتغير مسار الجزائر كلية في جميع نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية..


التسعينيات بدأت بانقلاب عمدي على الشرعية التي أتت بجبهة الإنقاذ الإسلامية، وانتهت ببروز رجل أعاد الروح للبلاد "عبد العزيز بوتفليقة".. وفي طياتها عرفنا معنى الألم والحزن والفاجعة.. عرفنا القتل والفرار والرهبة.. عرفنا جميع أشكال العنف والعنصرية واللاوطنية واللاعقدية.. لا أستطيع تنظيف طفولتي مما علق بها من أدران الفيلم المرعب الذي عاشه أهلي وسكان مدينتي وسائر وطني في تلك السنوات..
حارة حارة بزااف
ربما لم أبلغ حينها درجة الوعي بما حصل.. ولكن دوريات العسكر التي كانت تفتش بيتنا، وطلقات الرشاش التي كنا نستيقظ عليها فجرا، وكتائب الموت التي كانت تمر كل ليلة في طريقنا.. وكنا منهم كأهل الكهف في أمان وستر لم يقربنا منهم أحد.. وكل تلك الكراهية والبغض لأصحاب اللحى والقمصان المقصرة وحتى لمنظر الصلاة والتدين.. وأثر الشك ممن هم حولنا.. أهم خونة.. واشُون للإرهاب أو الأمن بهتانا وزورا..
ومسلسل البحث عن لقمة تسد رمق الأزمة الاقتصادية التي دخلت فيها البلاد.. بتلك الطوابير الطويلة التي ملأت صمت الليل بوشوشات الطامعين في السميد أو الحليب أو الغاز...مسلسل لا تنتهي حلقاته إلا بفتات الخبر البائت المبتل بدموع الخوف، ومياه عكرتها روائح الدماء المنتشرة في أرجاء المدينة المثقلة بالحسرات..
من تقتلون؟
مجازر ممتدة بطول القرى والأرياف.. قتل قصري، ذبح ونحر، وقنص وتفجير، بالسيوف، المسدسات، الرشاشات، القنابل، والألغام.. "حقرة"، تعسف إداري، اغتصاب واختطاف، مناطق مغلقة، حظر للتجوال، نقاط تفتيش مزورة من فرق الموت، وتمثيل بالجثث والرؤوس المقطعة..
عجز في مؤسسات الدولة.. لا أطباء في المستشفيات، ولا أدوية في الصيدليات، ولا مؤونة في المستودعات، غلق للمصانع والشركات، هبوط في سعر العملة، وغلاء في الأسعار.. هجرة غير مسبوقة للكوادر والدكاترة.. ومن كل هذا دولة منهارة وشعب ضائع..
من فضلكم.. أعيدوا كل ما قرأتم في هذا المقال مجددا بنفـَس آخر.. أكثر استحضارا لما وصفته.. فالكلمات لا تكفي مطلقا لإيصال مشاهد تلك السنوات المحرقة للقلوب وحتى الأجساد.................
أين الحرية وسط الشك؟
أما الآن.. فيظهر الفلاسفة والمفكرون والمجتهدون في النقد والثرثرة للغو بترف في مآسي الشعب.. ربما يعتقد القارئ أني بصدد عرض مقال تطبيعي وموال للنظام.. أبدا.. فقط تذكروا الـ1999م وانظروا اليوم إلى واقعنا.. "بوتفليقة" قدّم الأمن للجزائريين، أولئك البسطاء الذين لا يهتم بهم حثالة النخبويين الذين يطالبون بالتغيير وهم أنفسهم لو يقعون في سيناريو التسعينيات لن يكلفوا أنفسهم عناءً إلا عناء سحب تأشيرة الهرب إلى دولة بعيدة في أوربا ليجلسوا على أرائكهم الفارهة ويطلقوا تصريحات "التمسخير" والتنظير وهم يشاهدون على شاشة التلفزيون صور القتل والذبح.. لا يهمهم شيء مادام أبناؤهم برفقتهم في منأى عن أي تهديد..
أين المفقودون؟؟

من لهذه القلوب المفجوعة؟
 يؤسفني حال الرئيس كثيرا.. هو الآن مُقعَد لا يتحرك، والدليل طبعا ظهوره في كل ما عُرض عنه منذ نقله إلى "فالدوغراس" جالسا دون حراك، والأدهى جلوسه حتى في صورة انعقاد مجلس الوزراء.. أعتقد أن الرجل لم يُكفى حقه، بل إن المحيطين به يتسترون على وضعه الصحي لأجل حسابات ضيقة قد لا تفيد حتى شخص الرئيس.. من حق كل البسطاء والمغبونين في هذا البلد أن يعرفوا الوضع الحقيقي لرئيسهم..
مغالطة كبيرة أن نحمّل "بوتفليقة" مسؤولية الفساد المالي الحاصل في البلاد.. لا تنسوا البداية القوية التي افتتح بها الرئيس عهدته الأولى.. ومدى المصارحة التي كان يتحلى بها في لقاءاته الصحفية اليومية عبر فضائيات العالم.. فكروا في الخيانة التي تعرّض لها على يد كوطة "بن فليس"، تذكروا استضعاف "بوتفليقة" من قبل مافيا السلطة التي اعترف هو ذاته بصعوبة تغييرها في إحدى خطاباته واصفا إياها بالماء العكر..
التفجيرات لا تفرق بين أحد
لا تكونوا أفلاطونيين... لا يمكن لرئيس ما أن يكون الغاية في النزاهة.. إذ هي محاولات مستمرة للإصلاح وإن النفس لأمارة بالسوء.. بمعنى أن "بوتفليقة" ما هو إلا رئيس قد خلى من قبله الرؤساء.. له من الإيجابيات ما قد يغطي على سلبياته.. أما المنادون بإسقاطه ما هم إلا جبناء يجعلون من الرئيس مشجبا لصنع بطولاتهم الوهمية.. فالتغيير الحقيقي إن كان فلابد أن يستهدف صلب النظام وليس واجهته.. وهنا سنأتي لمعضلة "غلامية" معارضتنا "النيئة"..
ربما تماريت في الكلام الذي لا يعجب ثائري التدوين والفايسبوك، ولكن أحبتي.. الحر من راع وداد لحظة.. والشهم والبطل من قصد بسهمه صميم المشكل.. وما "بوتفليقة" إلا ورقة كانت بيد عصبة تكاد تلقي بها في طي النسيان..
                                                                                                                            بقلم / معمر عيساني

تعليقات

الأكثر قراءة