من صديقي؟

كان لنبي الله موسى رفيقا في إبحاره بحثا عن السيد الخضر، ولم يبخل عيسى المسيح بزمرة من الحواريين تقتفي أثره، وكان لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كل العبرة في العون والسند، وتفريج الهموم.. إن للصداقة حاجة تكاد تكون حتمية بيولوجية في قالب الإنسان وتكوينه، وما من عاقل يدعي الرشد يحيا دون خِلّ يشاركه أفكاره وأحاديث حياته.. ولكن أن يغدو هذا الطيف محض مصلحة مؤقتة، فهو عين الجحود، ومبلغ التولي عن سمة العاطفة الصادقة، والأخوة المنشودة.

يقولون من كثر أصدقاؤه لم يجد منهم أحدا يوم حاجته.. قارب القول واقعنا اليوم إلى حد كبير.. نمُّر في حياتنا على منعطفات عديدة.. نجد منها أصدقاء الدراسة والجامعة، رفقاء الحي الذي نقطنه، صحبة الخدمة العسكرية، وزملاء العمل.. كل هؤلاء يصلحون لأن يكونوا أصدقاءً يشرحون الخاطر ويملؤونه سرورا حين اللقاء.. ولكنهم خُشب مسنّدة، يتفرقون عند أول صيحة.
العيب في صداقة هذا العصر أنها توغل في القذارة كلما كان الإنسان صريحا طيبا عفويا مع ثلة تجعله مقلبا لرمي بعض الفراغ والأحاديث الكاسدة، هم لا يجدون حرجا في طمع بأدنى ما قد يجنونه من لقاء ذلك الصديق الصادق.. سماع قصة أو خبر، استدانة مبلغ مالي، قضاء مصلحة، أو حتى دفع ثمن وجبة دسمة أو مجرد جلسة عابثة بمقهى.. هنا لا نجعل مما قلنا حجرا محجورا.. بل هي نوع من التبادل المسموح به في المعروف والخدمة إن كان متداولا عليه من جميع الأطراف.. أما أن يكون ضريبة بحق من يحسب نفسه محور صداقة مزيفة فهو المنبوذ كل النبذ.

بعض الصداقات تنشأ بالأصل نتيجة الزمالة والاشتراك في مكان الدراسة أو العمل، هي لن ترقى إلى مصف الصداقة الحقيقة إلا بعد اختبارات الإخلاص وحسن النوايا، فالصديق وقت الضيق.. ـ هنا جعل البعض من المقولة: الصديق وقت قبض الراتب ـ... طعم الألوان الصناعية وصل لحد طمس جوهر الصداقة التي كان من المفترض أن تشكل ثنائيات وجماعات تتمثل بها معاني البشرية المتحضرة بإنسانيتها المتنصلة من كل مصلحة.  
يقص علي أحدهم قصة أخيه مع صديق له في الخدمة العسكرية إبّان مكافحة الإرهاب، أنهما كانا ظِلا لبعضهما البعض، متعاونان في السراء والضراء، لا يخوضان أمرا إلا بعد اتفاقهما، وحدث أن افترقا بعد انقضاء المهمة، ولم يلتقيا إلا بعد سنوات في محطة للنقل، فسارع كل منهما لمعانقة الآخر بحرارة، ولم يتمالكا نفسيهما وجعلا للبكاء في لقائها سيمفونية حزينة قد ترثي حال الصداقة في زمن الـ"appel moi".
المؤسف أن بعض الصداقات تكون قوية لا لشيء إلا لاشتراكها في الحرام، متاجرة بمخدرات، أو سرقة، أو دعارة وشذوذ، هنا قد يغيب المشهد البريء لفحوى الصداقة، لكنها موجودة وإن ضل الصادق والمصدوق. هؤلاء ربما سئموا من ذلك الكمّ الهائل من المجاملات التي لا تصنع من الذكور رجالا ومن الدهر مواقفا.. هؤلاء قد يكونون قد شرعوا لأنفسهم منهجا يضمنون به متانة الصداقة في مضمار دنيء يحتاج الرديف حتى النهاية.
رأي آخر يؤمن بشكل مميز من الصداقات لا يكون إلا بين الشاب والفتاة.. هنا لا نقصد علاقة حب أو جنس، بل صداقة يبث كل طرف فيها همومه وشكواه للآخر حتى يصل إلى راحة نفسية المتأتية مما نسميه لحد الآن "صداقة".. الجميل لدى هؤلاء أنهم وجدوا نسوة أكثر رجولة ومواقفا في ضيقهم من رجال كانوا يحسبونهم ركزا لهم..
كلما حاولت صنع فكرة نقية عن الصداقة ينتابني شعور بالغباء.. مكالمات هاتفية موشاة بمساحيق التجميل، أرقام منسية في ذاكرة الهاتف، أسماء مرفوقة بوظائف أصحابها، ورسائل sms منتهية الصلاحية بعد شهر من إرسالها... تفاهات وواجهات مزيفة لشرَاكات مفلسة.
لأجل كل هذا وجد أغلب الناس الفايسبوك منفى لهم للتعبير عن وجودهم في غياب أصدقاء الواقع وحضور أصدقاء الافتراض.. هم فقط يبحثون عمن يسمعهم دون إضافات أو خلفيات.. يبحثون ربما بأسماء مستعارة أو حتى معلومات حقيقية عن شخص مثلهم في التفكير والمشاعر والأحلام والآلام.. فهل لهذا البحث أن يكون في ردهة نصف مضاءة بالشارع الذي يسكنونه، أو في المكتب والورشة المجاورة لمكان عملهم؟؟ ربما هو أقرب مما يتصورنه، وقد لا يكون موجودا بالأصل.

بقلم / معمر عيساني

تعليقات

  1. غير معرف4/6/14

    صدقت أستاذ معمر مقال في القمة والصداقة نعمة عضيمة من الله سبحانه وتعالى لكن في حدود الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة واذا كانت صدقة مرأة مع رجل فتتحول هذه النعمة الى نقمة تحياتي لقلمك*ندى مسلمة*

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك أختي ندى
      والله مشكل كبير خواء تلك الرابطة الإنسانية العظيمة "الصداقة" من معاني الصدق والإخلاص
      وكما قلت لابد أن تكون الصداقة أولا وقبل كل شيء في طاعة الله وما يرضاه

      حذف
  2. متتبعة وفية5/6/14

    كعادتك تلتمس الواقع وتختمه بروائع .. مقال مميز يتطلب وقفة للعودة الى الخلف .. تحياتي ودمت متألق

    ردحذف
    الردود
    1. حفظك الله أختي المتتبعة الوفية ودمت بإطلالاتك على المدونة.. ونحن نعرفكم جيدا//

      حذف
  3. صفاء7/6/14

    لي إخوة جمعتني بهم المحبة في الله .. لم تلدهم أمي ولكنهم أعز الاصدقاء على قلبي تحيتي لهم ... من منبر مقالتك هذه أضع القلم وأكتفي ..موفق دائما أستاذي معمر

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا اختي صفاء--
      ولك تحية ولكل أصدقائك الأعزاء ألف تحية

      حذف
  4. ملاك الرحمن25/7/15

    أصدقاء اليوم للأسف لا يعرفون معنى الوقاء إلا من جمعتهم المحبة في الله ... الصداقة في الواقع أرقى بكثير لو يعرفون حقيقتها .. الصداقة لا تقدر بثمن ولا تعوض بعالم افتراضي ..رحم الله أحبابنا وحفظ من كان معنا ..حفظك الله مقال رائع

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أختي ملاك الرحمن
      نسأل الله لقاء الأحبة الصادقين واجتناب الماكرين المخادعين

      حذف
    2. ملاك الرحمن26/7/15

      اللهم آمين يارب..

      حذف

إرسال تعليق

رأيك يهمني..
تفضل الآن، واكتبه لينشر مباشرة دون تسجيل أو انتظار..
فهذه مساحتك الحرة للتعبير عنه..

الأكثر قراءة