التسوّل والوطنية












   قال "فيصل القاسم" أن المتشرد في أمريكا تجده ينام الليل البارد تحت الجسر في العراء، يقول مفتخرا "I AM AMERICAN " صادحا بوطنيته وانتمائه.. صدقت يا "فيصل" فالمخلوقات العربية عندنا قد تجد التخمة أقعدتها وأهلكتها لتقول في النهاية "يلعن أبو العرب".

          أضحكني موقف إحدى المتسولات الجزائريات في مسجد صليت به التراويح ذات رمضان، امرأة سورية تبسط يدها متسولة، وقربها تلك العجوز الجزائرية الشمطاء ههه، الجمهور كله قدّم المال لتلك السورية "اللاجئة"، في الوقت الذي لم تجد فيه ابنة الوطن درهما أو دينارا من محسن، فراحت تشكو من ذلك، لمَ لا يعطونها الصدقات وهي من بني جلدتهم؟؟ فكّرت حينها في أمر يتجاوز الموضوع إلى انتماء قومي ديني، لكنه في مضمونه لم يكن إلا نوعا من التملـّـق لتلك السورية.. هذا طبعا موضوعٌ له مقال خاص به..
المتسولون في الجزائر: هل هم وطنيون أم لا؟؟ يا جماعة ليس هذا هو إشكالنا بالأساس.. المتسولون هم أول الخونة الذين سيَشُون بالمقاومة لو اُحتُلت البلاد.. صدقوني وكونوا على هذا من الشاهدين، فمن يبيع دينه وشرفه وعزه لأجل قطع نقدية باردة على كف يده، يستطيع فعل أي شيء.. حسنا سنستمر في تتبع فكرة موضوعنا اليوم..
الوطنية: هل هي أخذ أم ردّ؟؟ لن تكون الإجابة اجترارا لما قاله سادتنا العلماء كلّ في مجاله.. فقط أؤكد لكم أن الوطنية لم تكن يوما مجرد ردّ وإعطاء، بل أخذ وانتفاع.. هو الحاصل في جميع دول العالم.. أي بلد يحترم مواطنيه، يقدّم لهم كل ما يمكنه تثبيت انتمائهم له، من مقومات مادية تشتمل على تعليم راقٍ وصحة شاملة ووظيفة محترمة وسكن لائق.. هذا قد يكفي لتجعل من المواطنين بشرا وليسوا مجرد قطيع يضفي الشرعية على فئة تحكم.
الوطنية: شعور يُولَد بالأخذ والاستفادة من مقدرات البلد وثرواته.. هذا "الأخذ" هو الذي سيدفع بالمواطنين للعمل وتطوير مجتمعهم لأنهم يؤمنون بحصولهم على الأفضل عند أي تطور.. حصولهم هم بذاتهم على ما يحقق كرامتهم وليس أبناء المسؤولين ورجال الأعمال ومن يشكّل نظاما إقطاعيا طبقيا.. وحتى في الإسلام، حرص الشرع على تخصيص حصص من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، أولئك الذين يُخشى عليهم ترك الدين، تثبيتا لانتمائهم الجديد، بالإضافة إلى حكمة المولى عز وجل في منح حقوق للفقراء ومن أغرقته الديون، وحتى عابري السبيل في إشارة واضحة إلى توحيد قاطني "الرقعة الإسلامية" من المحيط إلى الخليج أيام عزّة المسلمين.
الوطنية تتخطى الدين واللغة والأرض إلى المصلحة المشتركة.. أوربا التي شهدت أكثر حروب التاريخ دموية، هاهي تعيش الوحدة ومنذ سنوات لتبثّ الانتماء الواحد لشعبها، فمادام الألماني والفرنسي والبلجيكي وغيرهم ينتفع بكل ما يحققه الآخر من نجاح، فلا سبب حقيقي للتشرذم والانفصال.. ونفس الحال في دولة الإمارات العربية التي وحّد أمراؤها ممالكهم الصغيرة ليحصلوا على معجزة عمرانية اقتصادية ذات رفاهية في جزيرة العرب.. ولا ننسى الولايات المتحدة الأمريكية التي لولا توحّد شمالها وجنوبها لما كانت أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم اليوم.
الآن نعود إلى أصدقائنا "المتسولين"، الذين اعتبرناهم "خونة" في حال ما تعرضت البلاد لاحتلال ما، هل هذه الخيانة نوع من "الوطنية" في منظورهم الخاص؟ ماداموا منتمين لجهة أخرى "تعطي" مقابلا لانتمائهم ـ الجديد ـ لها، ستكون بالتالي مواطنَةً غير مقبولة لدى من يرون الواقع احتلالا؟ مشكل كبير هنا، لأننا سنعتبر جميع الحركى والخونة عبر تاريخ الدول الاستعمارية "وطنيين" ضمن قاموس الدخلاء، أما مفهوم "الاحتلال" بحدّ ذاته سيعرف "انحرافا" اصطلاحيا، قد ننعت به أي "حُكم" لا يراعي إنسانية شعبه ولا يعمل على رفاهيته..
من هذه الزاوية سنعيد قراءة التاريخ من جديد.. من المؤكد أننا سنجد جميع الحركات الاستعمارية مستبدة ترغب في الانتفاع من مستعمراتها، فلا معذرة لمن ابتغى "عمالة" لديهم.. ولكننا سنفتح القائمة السوداء لإضافة المزيد من صور الاحتلال والاستغلال للوجود البشري في أي تكتّل يمكننا تسميته "وطنا".. فجميع الحكومات والأنظمة اللاشرعية الآتية من صناديق اقتراع مفبركة، ورؤوس أموال فاسدة، والجماعات العنصرية التي تحتكر العمل السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، كل هؤلاء سيُطيلون قائمة الدكتاتوريين والمستبدين والمستغلين لشعوبهم.. هم بالتالي يستحقون ثورة لا تقلّ هوادة عن سابقاتها ضد من أراد بالأمس التلاعب بحرية الإنسان، لأن الحرية لا تكتفي بالبهرجات واللاأخلاق، بل تستكملها التنمية الفكرية والبشرية ضمن جميع مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بقلم / معمر عيساني.


اقرأ أيضا:

لماذا يُذلّ الموظف المواطنين في الإدارة؟

اعطونا سُكنة ورجعوها ديكتاتورية

أنا أحب أمريكا...

نحبوك فرنسا

كيف يرتقي المواطن إلى درجة المراقب في المجتمع؟


تعليقات

الأكثر قراءة