المشرّدون والمجانين: أصحاب خُلُق

 
          في اتجاهي إلى منطقة "الخرايسية" انطلاقا من "تافورة" بالعاصمة، جالسني رجل في الأربعينيات من عمره.. بدا لي من مظهره وسلوكاته الأولى غير سويّ، وسط زحمة الحافلة استأذن رفيقي ليجلس بيننا، ثم اشترى علبة "قفريط" وقارورة ماء صغيرة.. وإذا به يعرض علي وعلى آخرين مشاركته في تلك العلبة في بادرة مليئة بالعفوية والبساطة.. جميعنا رفض إشفاقا على حاله.. وربما "تعيّفا" منه.. لا أدري ولكن الحافلة انطلقت رغم هذا وذاك..
          كان المسير طويلا.. جاوز الساعتين بسبب الازدحام والأشغال عبر الطريق.. الحافلة امتلأت عن آخرها بالركاب.. وصادف أن يكون منهم شاب "هيبهوبي" يضع سمّاعات في أذنيه.. هنا بدأت أَلحَظ تصرفات ذلك الجليس "غير العادي".. أولا حذّر الشاب من انفتاح الباب الأوتوماتيكي، ولم يهتم بكلامه مطلقا ذلك الشاب ازدراءً له ولحالته التي كانت كما قلت قبل قليل توحي بالدروشة والخبول..
          بعد ذلك عرض الرجل حبّات "قفريط" على الشاب، الذي لم يحرّك ساكنا أمام هذا العرض احتقارا له.. وعندما تأهّب الرجل المسكين للنزول في المحطة التي كان ينشدها، عرض على الشاب مجددا أن يجلس مكانه.. ورغم ذلك، لم يهتم به أبدا.. بعد نزوله جلس الشاب مكانه بقربي كأّن شيئا لم يكن.
          الموقف حمل الكثير من علامات الاستفهام: هل وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة من إلغاء وجود الآخرين إن بدا عليهم الخبل والفقر؟؟ هل نتعامل بالسلوكيات "الموضوعية" أم مظهر الشخصية ومكانتها؟؟ هل المشردون والمخبولون والفقراء ومن لا يعرف ارتداء اللباس اللائق أقل درجة من غيرهم ولو كانوا أصحاب خُلق؟؟ هل انتهى المجتمع إلى الطبقية رغم كل تلك الخرافات التي كانت تحكي عن المساواة واللاعنصرية؟؟
          أخطأ الشاب كثيرا في ردة فعله مع ذلك الرجل المسكين.. فحتى لو كان يبدو غير سويّ، فمعاملته كانت جد رائعة وإن لم نقل ذات جودة خلقية، فنجزم بأنه تعبير شفاف عن الإنسانية غير "المُقصية".. ما يحزن في الموقف، هو أن ذلك الشاب ـ ولا نخصص القول هنا ـ وأمثاله ممن يجعلون نمط حياتهم نسخة عن معيشة الشباب الأوروبي، قد لا يجعلون اعتبارا واحتراما حتى لأولئك الذين نحسبهم من الأسوياء أولي العقل.. إنه جيل من اللامبالين المهملين لكل خلق وفضيلة.
بقلم / معمر عيساني. 

تعليقات

  1. غير معرف24/1/15

    أمثالهم شوهو صورة الانسانية وغيروا الواقع بتصرفاتهم الصبيانية ..ولكن الحمد لله فمع ذلك مزال الخير في بعضهم

    ردحذف
    الردود
    1. الخير باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.. حقا مؤسف ما آلت إليه طبائع البشر.. لكنها سنة الله في خلقه..

      حذف
  2. غير معرف25/1/15

    الشاب نتاج تحولات ومخاض المجتمع الجزائري في السنوات الاخيرة فهو احد انعكاسات الهجانة التربوية ليس الا "في سللوكه في حديثه العنيف في اختراق حيز الاخر من دون استئذان في قهقته التي تعبر عن فراغ الجوف ووو" أنا لا الومه بقدر ما الوم الفاعلين المجتمعيين الذين استقالو من مهمتهم التربوية "العائلة المسجد المدرسة الجمعيات المدنية ..."فماذا عسانا نتوقع غير هذا الكائن الغريب الذي وان قزمته انت يا استاذ فانا اعتبره حالة اصبحت طبيعية ومتقبلة من المجتمع بفعل كثرتها...الحديث يطول لكن في ملاحظتك لسلوكه أمل يبقى ويطل دائما.....أ موزاي بلال

    ردحذف
    الردود
    1. لابد أنها نتاج ظروف وفترات مرت بها البلاد خلال التسعينيات مع الإرهاب وبداية القرن الجديد مع موجة تكنولوجيا الاتصالات المتسارعة.. وولكن لابد من الوقوف لحظات لتشخيص الوضع ومحاولة الإصلاح قدر اللازم، فالعلاقات الاجتماعية لابد أن تكون أكثر إنسانية وأخلاقية..

      حذف

إرسال تعليق

رأيك يهمني..
تفضل الآن، واكتبه لينشر مباشرة دون تسجيل أو انتظار..
فهذه مساحتك الحرة للتعبير عنه..

الأكثر قراءة