عملية شارلي إيبدو.. طاحونة الإعلام الموجِّه

            بعيدا عن اتهام طرف أو تبرئته في عملية استهداف مجلة "شارلي إيبدو" في باريس، وبغض النظر عن التوجهات الدينية التي قد تفرض على البعض نوعا من التزكية لهذه العملية كونها قلّمت أقلاما تستهزئ بالإسلام ومقدساته، نجد أنفسنا أمام نجاح إعلامي باهر في حشد الجماهير وتدوير الرأي العام.. ما يؤكد من جديد هشاشة الوعي "الجماعي" والضرب في مصداقية ما يمكن أن نستقي أخباره عبر التلفزيون والإنترنت.

ما يقرب الـ4 ملايين مشارك في مسيرات جابت المدن الفرنسية تنديدا بالعمل الإرهابي، أصابع الاتهام وُجّهت مباشرة كالعادة للمسلمين، وقد تمّ القضاء على منفذَيْ العملية الأخوان "كواشي" ذوا الأصل الجزائري، ولكن المثير للضحك ادعاء جهاز الأمن الفرنسي عثوره على نسخة من هوية أحد المنفذين في السيارة التي تركاها ولاذا بالفرار إلى مكان اكتُشِف لاحقا، هذا السيناريو لا يمكن تقبّله حتى في فيلم سينمائي! فكيف بهجوم نُفّذ بالأربيجي والكلاشينكوف في قلب باريس!
العودة بالحديث إلى هذا الخبر مردّه نجاح الآلة الإعلامية الغربية ومن خلفها النسخ العربية التي لم تحترف بعدُ مادة الإعلام، نجاح كبير في حشد الجماهير وتوجيه الرأي العام، وإلغاء جميع الاحتمالات والإبقاء على احتمال واحد لا غير وهو ضلوع الجماعات الإسلامية في هجوم "شارلي"، رغم أن المجلة الساخرة لم تترك أحدا إلا واستهزأت به، بدءا بالشخصيات الإسلامية المقدسة، وانتهاء إلى رجال السياسة والفن في الغرب.. فلماذا إذن يُحمّل العالم العرب مسؤولية الهجمة، وقد مضى على ضجة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم سنوات عديدة؟
الفيديو الذي وثّق أجزاء من ذات العملية، انتقده الكثيرون، واعتبروه مفبركا، أو به نوع من الغموض، هنا لن أكرر ما قد قيل قبل مدة عن تحليل هذا الفيديو، بل وكل حيثيات العملية "الإرهابية"، ولكن إلى متى يستمر الاستخفاف بعقول العرب المسلمين؟؟ لدرجة أنهم أصبحوا يسارعون في درء التهم عن أنفسهم حتى قبل الاتهام، جولة سريعة عبر مختلف القنوات الفضائية حين وقوع الحادثة، تجد أئمة وشخصيات مقيمة بالتراب الفرنسي، تتوسل الرحمة والشجب الرسمي العربي للهجوم، ويرفعون لافتات الخشية من الانتقام.
بوادر الانتقام ـ المتبادل ـ بدت بمُضي ساعات فقط على الحادثة، استهداف مساجد ومطاعم للمسلمين في المدن الفرنسية، وبالمقابل عمليتان منفصلتان تستهدفان شرطية ومركزا للتسوق بذات البلد، ومقر جريدة في فرانكفورت بألمانيا، يتعرض لهجوم لم يخلف خسائر بشرية نتيجة إعادة نشرها رسوما مسيئة للإسلام كانت قد نشرتها "شارلي إيبدو" سابقا.
"هولاند" عندما وصل عدد القتلى 12 فقط، قال: فرنسا في محنة حقيقية! وهبّ العالم كله لدعم فرنسا إعلاميا واستخباراتيا وكأنها القيامة، أو أن الحنين لأحداث الـ11 من سبتمبر قد بُعِث من جديد، بالأمس فقط "غزة" أحصت قتلاها بالمئات، ولم يهتم لهم أحد، السوريون لم يجدوا مهربا، فالعاصفة الثلجية أمامهم والصواريخ وشبيحة آل الأسد خلفهم، قتلاهم ربما ليسوا معدودين مع البشر، فهم دونهم ولا ريب!
العراق قُصفت وحُطّمت عن بكرة أبيها ولم يقل أحدهم "كفى"، ولم تُغنِ وعود الغرب للعراقيين مثقال ذرة، الضاحية الجنوبية في لبنان عندما تعرضت للقصف الإسرائيلي، لم يتجرأ أي من هؤلاء على إيقاف القتل في حق المدنيين العزّل، ولا أنسى الجزائر التي أمضت عشرية سوداء من تاريخها في حمام دم، ولم تكلّف الأمم الراعية لحقوق الإنسان نفسها عناء العمل على إنقاذ الجزائريين وتخفيف الأزمات الاقتصادية التي لحقت ببلادهم..
أظنكم تعرفونها منذ زمن، واحد منهم بمئات منا، نحن لا نساوي شعرة بعير لديهم! ما يسوؤني أن نظرتهم لنا الدونية قد تكون صوابا لا لشيء إلا لأن ضعفنا وهواننا من داخلنا من أبناء جلدتنا وغير مُسلّط علينا لولا خيانة الحكام ومكر الساسة والمسؤولين.. وجبن وجهل قطعان الشعوب العربية المنقادة ذات اليمين وذات الشمال.
بقلم / معمر عيساني.