الرومانسيون العرب

         يستجمع العربي كل مساء شحنات من العواطف المُقيدة، وينفث بين يديه آلام أحلام لا تتحقق، وحرقة واقع تتحطم عليه أخلاق الأمس، وتتعرى بين جنباته مبادئ هرمت في العقول.. هي حياة حُكِم علينا باجترار أيامها شئنا أم أبينا.. ونحن بها نحمل على عاتق أفئدتنا ألف قضية وفكرة، تتنكر كلما سطع بها وهج المُصارحة.
اليوم سأرافع عن فئة غافية في مساحة اللاوعي من مجتمعنا.. هم الرومانسيون.. أولئك المعذبون في الأرض، والشاردون على ضفاف العواطف المتناهية.. كيف هم اليوم؟.. وهل لازالوا عاكفين في محاريب العشق العذري، ويُسبّحون بشوق الأحبة..
لم يخشَ "جميل بن معمر" الشاعر العذري العربي القديم في حب "بثينة" لومة لائم.. واجتهد في وصالها كل ليلة سوداء مسودة الحاسدين بينهما.. وإذ هو في حضرتها تحت خيمة "رثة الترحال".. استرق والدها وأخوها السمع من حديث المُحبَّـيْن، فما كان منهما غير العجب، حينما دعت "بثينة" "جميلا" للمعاشرة الحميمية، فرد مُهددا إياها بسيفه إن هي حقا قصدت ما تلفظت به..
هنا ألجمت "بثينة" غضب ذلك "العفيف الورع"، لتطمئنه بقولها: أنها كانت تتأكد فقط مما في خاطرها سكن، وما تسامى بحبه لها في شغاف القلب.. فابتعد الوالد والأخ عن الخيمة، وهما في أتم الثقة مما بين ابنتهم وذلك الرجل..
من السذاجة أن نؤمن برجال ونساء من هذا الصنف في زماننا.. لكنهم موجودون ربما حيث لا ندري، وربما في أسوء بقاع الدنيا وأكثرها اشتهاء للحوم الإناث.. لكنهم قلة لا تمارس من رومانسيتها غير التمني والتأوه والأحزان.. يبكون على أطلال العفة والعذرية، وكل ليلة يلتحفون غنج الجميلات وأنوثة الحسناوات في خيال ليس له إلى الحقيقة سبيل..
يُـجمِع الشباب اليوم على توقيع شهادة وفاة الحب.. ويجعلون قوم الرومانسية في أغبى الصفات وأحمقها.. لم تعد البنات مثل "بثينة" يفكرن في وصال الحبيب بعفة الأمس.. فالسيارات الفارهة، والفنادق والملاهي، والشواطئ ورحلات الترف والمتعة هي غاية كل أنثى.. وطموح كل كاعب بِكر..
في المقابل.. لم يعد يشغل الكثير من الرجال اليوم عواطف تصدر من القلب.. كل ما في الأمر استجابات شرطية لأعضاء سُفلية.. انسوا كلام الحب وكل تلك القصائد الطوال.. إن وُجدت فماهي إلا بدايات وردية لنهايات حمراء.
هنا.. تغيرت كثير من المفاهيم والقناعات المُسبقة.. كان الشاب يصبو للقاء حبيبته تحت شرفة منزلها.. وبيده باقة ورد ندية.. وكلمات حب شاعرية.. قد يعود ذلك الشاب من جديد لتلك الشرفة.. لكنه لن يجد حبيبته هناك.. قد ولت وجهها لشرفة ثانية.. حبيبها الآن بسيارته.. وفي جيبه عدد من "الواقيات الذكرية" ـ عذرا ـ.. وبفمه أفلام إباحية تسير عبر الكلمات.. وموعد يَجُبّ ما قبله..
حسنا لنغير المشهد.. فالهاتف كفيل بترتيب موعد بينهما.. وقد تحل حبوب منع الحمل محل الواقيات.. ولزيادة القذارة.. لا مشكلة في أن تكون الحبيبة على ذمة رجل آخر.. فالقلب وما يهوى.. وتساعد السكنات الجاهزة والمفروشة في تنفيس كـُرَب المؤمنين..
لا يُخفي أحد الأصدقاء حرقة قلبه حينما يرى أجمل الفتيات.. هن من يُجرم في حق العفة.. ويقول: أنهن من خيرة ما ولدت حواء لو كن طُهريات.. لكن سلطة الشهوة والمُحرمات، جعلت من صويحبات الأجساد الممتلئة والرفيعة، مشاريع "جنس" ناجحة، وطُعما لذيذا لاصطياد الرجال ممن يدفعون الألف والمليون للّيلة الواحدة..
أكثر من هذا.. أصبحت الفتيات يَرَيْن الشباب الذين يمتنعون عن تطوير علاقاتهم بهن على مستوى الأسِـرّة والغرف المغلقة، عديمي الرجولة والفحولة.. ما داموا يكتفون بالكلمات الشجية والعواطف النبيلة دون "إيلاج" وترك أثر على فروجهن.. وفي الأخير يُنهين علاقاتهن بهم ليتجهوا لمن يوفر لهن الحاجة الكافية من الجنس.
لا تنزعجوا مني.. أنا أدون ما ترونه في مُدنِكم وشوارعكم، وجامعاتكم وسائر ما تطأ أقدامكم.. وأبحث عن أصحاب الرومانسية؟؟ وأتحسس دموعهم على قارعة الطريق.. طريق تروي أحزانهم في كل مرة يعشقون بها.. وفي كل مرة يُواجهون واقع المادة والحيلة والخداع.. طريق تعرف أنهم شباب كانوا ذات مساء يقرؤون قصص الحب الأسطورية، ويُمَنّون أنفسهم بفتاة جميلة ترفع ظلمات الهوى عنهم، وتطير بقلوبهم إلى أعنة السماء دون قيد..
حسنا لنعترف أننا فقدنا عواطفنا.. ولم يبق لنا غير الأجساد.. لا تكلّفوا أنفسكم عناء البحث عن حب عفيف.. وحبيب نتحمل لأجله عناء الوجد، ونضحي بحياتنا ليحيا باسما حلو النفس.. فكل هذا محض هراء..
بقلم / معمر عيساني

 اقرأ أيضا/