فقه الملتقيات



 قد يراها البعض ترفا ثقافيا، وآخرون يُحجِمون عنها فهم يزعمون أن بها المتردية والنطيحة وما أكل السبع من الرداءة.. كما يسارع إليها نفر يصيبون منها مغانم كثيرة من مأكل ومشرب ومبيت وتكريم،  لكنها في كل هذا ضرورة ملحة، ومظهر حضاري يجب تثمينه والسعي لتحديثه وتطويره.


إنها الملتقيات الأدبية والفكرية "بالأخص"، هي مواسم للإبداع ولقاء أهل الإبداع لتبادل الخبرات والتجارب، إنها سوق راقية للثقافة، تجسد سلعتها ثمرة ما ينتجه الكُتاب والشعراء، وهي المحرك والمحفز الذي يدفعك لدخول غمار الكتابة والقراءة، بما يُعرَض من مؤلفات آسرة، ونصوص ساحرة.


تسعى الجمعيات الثقافية، ومديريات الثقافة والجامعات الأكاديمية والهيئات المعنية بهذا النوع من الملتقيات إلى تنظيمها، وحشد الجمهور لحضورها والاطلاع على ما يعرضه المشاركون من إنتاجات، وتشترك في نمطية التحضير لها، فتئد أحيانا الجودة عن قصد أو غير قصد، وذلك بإقحام أسماء "موصى بها" في قائمة المشاركين، قد لا تكون في مستوى تطلعات الوسط الثقافي، أو تحويل إيديولوجيا الملتقى لخدمة غرض سياسي أو شخصي أو ما لا يلتقي بالإبداع المحض.


كما ينتهز المنظمون أحيانا هذه المناسبات لتضخيم الفواتير ونهب المال العام، خاصة وأن بعض المشاركين "الهواة والجدد" لا يهتم بالتمويل المادي بقدر اهتمامه بالظهور، وتحقيق بهرج إعلامي يرفع ذكره ولو حينا. ما يكون مطية لبعض الإداريين الذين لا يفقهون في الثقافة بقدر فقهم في الفوترة الكاذبة. وهؤلاء الإداريون منهم من يهتم بتحويل مسار الملتقى إلى سيرته المهنية من أجل الترقية في المنصب، والوصول إلى قمة الوزارة المنتمي لها، فكأن المشاركين والجمهور مجرد قطيع يرعى في مزرعته.


وآفة الملتقيات أيضا الحساسيات الواقعة بين تيارات من المبدعين، على حساب جودة ما ينتجون، فتجد سياسة الإقصاء ممنهجة، تحرم كثيرين من ملتقيات كانت ستنجح أكثر لو شاركوا فيها. ولا ننسى ما يواجهه المنظمون من بيروقراطية مقيتة حينما يشرعون في التحضير لنشاطهم الثقافي والاستعداد له بما يمكن من دعم مؤسسات عمومية تصعب مهماتهم وكأنها مؤسسات خاصة لا تُعنى بخدمة المثقفين والنخبة.


كما قصُر بعض منظمي الملتقيات عن استخدام التقنية الحديثة لتقديم عروضهم وتسطير برامجهم وإثرائها، وفق ما يجذب العام والخاص، وهؤلاء "وهم الأغلبية باعتقادي" سيجنون نجاحات باهرة وأصداء واسعة لو وظفوا شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات التلفزيونية بشكل يتجاوز الإعلان المسبق والبث المباشر أو التقارير الروتينية المصورة إلى تفاعل أكثر وترويج أعمق لفئات شتى، من أجل الدفع بهذه الملتقيات إلى أكبر عدد من المتابعين، ليطلعوا على مضامينها وليس مجرد "سيلفياتها".


يجب الإكثار من الملتقيات الأدبية والفكرية والفنية الثقافية على المستوى المحلي والوطني والدولي، برؤية حداثية تثير شهية المبدع والمتلقي، رؤية تتجاوز الإطعام والمبيت والتكريم وحمية الجماعة وحسابات الفئوية، إلى تحقيق جودة الإنتاجات الثقافية، وإشاعتها للمجتمع بغية الأخذ بيده من مستنقعات التفاهة إلى قمم الوعي.


ولابد من فتح الفضاء أمام الهواة والجيل الجديد من المبدعين، وعدم فرض أسماء جاهزة قديمة عليهم بحجة أنها أسماء لامعة ومشهورة، لأن الزمن لفظ هذه الفكرة النمطية الميتة، وبالمقابل نتبنى فلسفة إتاحة الفرصة لمن أتى حديثا مهما تدنى مستواه، فمهمة المشاهير الذين ذكرناهم النقد والاحتكاك بمن تعوزه الخبرة والحنكة لا ممارسة الوصاية عليهم.


#معمر_عيساني

 


تعليقات

الأكثر قراءة