قـَيْمُونَا نـَبْرَاوْ

       سمعته مخاطبا شابا "هيبهوبيا" قائلا له "قيمونا نبراو" ـ قدرونا وسنشفى‼ ـ، لم يبدُ موغلا في الخبل، ولم يأخذه الفقر بعيدا، بملبس مقبول وهيئة تُرضى، قام من مجلسه متمتما بكلمات ربما تلخص حال "الإنسان" في مجتمعاتنا العربية، إهمالا وتهميشا قصريا، وهضما لأدنى الحقوق.
لم تعرف الحياة من قبل تقديسا للمادة وذوبانا في تحصيلها كالذي نحن فيه اليوم من عبودية مجسدة في عقارات وأرصدة وتجارة لا ترحم رحيم القلب. وكان نتاج هذا الوضع سحق للقيم الإنسانية والأخلاق المتعارف عليها، ليصبح الحلال والطيبة والنية الصادقة من ضروب الاستهزاء والسخرية، أما الحرام والمكر والحيلة فهي قانون الاجتماع بين بشر هذا الزمان.
متشرد بات ليلته في الشارع رفقة كلب هو الآخر متشرد -واقعية من تصويري-
أبكرت ذات يوم لأجل العمل لأجد في طريقي المشهد المصور أعلاه، رجل متشرد يفترش الأرض وبالقرب منه كلب متمدد نائم هو الآخر.. لقطة أثارتني جدا، وأمسكت زمام الألم في الحياة، أين مكانة الإنسان وروحه الحقيقية؟ لماذا لم يعد في قواميسنا إلا الأرقام والصفقات؟ أما الصداقة وصلة الأرحام، فباتت محض هراء‼
الحكمة من أفواه المجانين أدعى لأن تُتّبع، أما ذاك الرجل الذي طلب أمرا هينا لكنه جد عظيم: قيمونا نبراو، يريد جزءا من القيمة، قدرا من الإنسانية، فقط ليُشفى وليس لغاية أخرى قد تدرك.. مؤسف حال من قست عواطفه فهو لا يفرق بين إبعاد ذبابة عنه وسحق آمال نشء بأكمله، مادامت مصلحته فوق كل اعتبار... مؤسف حال أولئك المشردين الذين ظلمهم أحبتهم قبل اتهام الدنيا بالانقلاب عليهم، مؤسف حال من لم يسعفه عقله لاتساع مدارك حاضره ليجد نفسه فرجة لمَعْشَرٍ لم يحفظوا لأنفسهم شبرا من آدميتهم، فتهكموا واستهزؤوا بمن فارق رشد عقله.
 عكس المجتمعات الغربية التي ارتقت في تقدير الإنسان بل تجاوزته إلى تقدير الحيوان وحفظ كل حق ممكن، برهنت مجتمعاتنا العربية بفهمها الخاطئ للدين وحبها للزعامة وانغماسها في الطائفية والتحزب، وهَوَسِها ببريق المادة جشعا وانبهارا، وعجزها التربوي الاندماجي بدءا من البيت واستمرارا في المدرسة والجامعة، برهنت "الأعراب" على طبعها الخشن، وابتعادها عن التمدن الحقيقي، وانسلاخها عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الإنسان الذي تأثر حتى لجذع يابس مرمي بأطراف المدينة المنورة، فما أدراكم بكبد رطب في إنسان أو حيوان‼
لا يمكن إدراك نهج الوصول للحضارة دون الأخذ بالاستثمار الجدي في الثروة الإنسانية، وجعلها الأساس في كل أمة تريد عزتها، فالتربية الصحيحة وتوفير الحاجات الأساسية لنمو متوازن بين الروح والجسد، ووضع الخطط المستقبلية لتكوين النخب وتشغيلها حسب متطلبات النمو الاقتصادي والعلمي، وترسيخ الأخلاق والمبادئ الدينية المقتبسة عن السلف، كله كفيل بتحقيق حيز عائلي اجتماعي يضمن لهذا الإنسان عزة وقدرا يحفظه في شرفه ورشده وكل حضوره.
بقلم / معمر عيساني

تعليقات

الأكثر قراءة