لابد من صراع يحقق انتماءنا!


يجمع المشهد الفكري والثقافي رِتلين من المبدعين المتواجهين بأزمنتهم التي تلفَظ ما يؤمن به كل طرف، فترى ممسكا على التراث يعُضّ عليه بالنواجذ يقدسه كيف استطاع ويهب له كل زمانه ويلغي حضوره للأمس، ويقف عليه كل ما يمكن أن تسعه كلمة الإبداع، وطرف آخر يسعى لانسلاخ معلَن يتباهى بزركشة ما يأتيه من جِدّة في الفنّ والفهم، يسوق كل ما يخالف السابق لأجل سطوة اللاحق، ويذم مُحبطيه ويهجو مسفّهيه، ويعلن قيام حاضره بأسس الغد لا دعامات الأمس، فأي الفريقين أحقّ أن يُتّبع؟

للأسف مقدمة هذا المقال منتهية الصلاحية منذ عقود لما هضمته المطابع من كتب لَغَتْ (من اللغو) في شأن الصراع بين التراثيّ والحداثيّ، وما وضعتُها إلا لأستميل "نفرًا ما" لازال يؤمن بضرورة أحدهما لا كليهما، وحقيقة مسار هذا "الجدل" القاتم تكمن في ضرورة "بقائه"!
تأليه الماضي واعتباره كاملا إقصاء لبشرية الأجيال القادمة، وحُكمٌ عليها بالدّونية مهما بلغَت من وعي، فما يصلح للآباء والأجداد من علوم وأخلاق وحتى مبادئ ليس بالضرورة خالصا نافعا لمن يأتي من بعدهم، وإن جال بالك في قضية الدين، فاعلم أن الدين دينان: أوّلٌ وضعه الله خالقُك والثاني قاس به مخلوق مضى فهمه في الغابرين، أمّا الأول فثابت غير قابل للحذف أو اللّف، لا لشيء إلا لأن الخالق يعلم ما لا تعلمه كل الأجيال، فوسعت شريعته ما يمكن أن يكون وكان وكائن، وأما الدين الثاني الذي استنبط أحكامه قياسًا نفرٌ من الأحبار فمفلحٌ آخذه في زمانهم قاصرٌ مُوصِلُه للأحقاب الواردة على خط الحياة، فقراءة الأحكام تتغير بتغير الظروف وفق أصل وفهم يندرج في غاية واحدة موحّدَة، وحتى لا نلج الفقه، نعود للثقافة المنبثقة عنه في فصيل ما!
أمّا التطرف في المعاصرة والإتيان بكل جديد موغل في الحداثة لأجل مبارزة الأسلاف وخلق قطيعة بين الأمس واليوم، لا يخرج عن مسخٍ يودّ البعض تكريسه في أُمّة ما لتجد نفسها بعد حين أمّة أخرى لا تملك هوية، هذه الهوية التي تحتاج التراثيّ والحداثيّ معا لتشدّ أزرها في صناعة وجود بين سائر الأمم.
والتوفيق بين الاتجاهين لا يكون باختيارات عشوائية أو توافقية، بل بصراع حقيقي يَمِيز الأجدر من الفَضلة، الصالح من المفاهيم والأحكام، لا الفاسد الغثّ منها، ذلك الصراع الذي نوَدّه يُكمّل نقائص ما وصل إليه مبدعو الأمس ويبلغ بالمُجدّدين النضجَ.
هنا تتجلّى الهويّة التي تُحقّق الانتماء إليها من طرف فئة تفخر بها ولا تعتبرها عبئا، تناقش الرّديفَ في الوطن وتصارعه لأجل نصرة الوطن لا المتربص به، فالمثقفون الذائبون في إيديولوجيات الغير، كان عليهم المبادرة لأن يأقلموا الفكر المنسلخين عنه لا نقضه، حتى يصنعوا حيّزا خاصا بهم لا مجرد انضمام لقطيع آخر! 

بقلم / معمر عيساني

تعليقات

الأكثر قراءة