عليها نحيا ونموت!


كان لوفاة المجاهد عباسي مدني رحمه الله وتزامنها مع الحراك الشعبي أثرا بالغا تجلى في الجو الشعبي المهيب الذي رافق جنازته في العاصمة. عباسي مؤسس الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يترك المجال سانحا للاستئصاليين الذين حرموا جماعته السلطة حتى وهو في القبر، وأكد أن "الفيس" فكرة (لا تموت) لأن تركيبة المجتمع الجزائري (قد) لا تحول بمرور الزمان وتعاقب الأزمات وتداخل التيارات الفكرية والسياسية!

  لأن الجزائر رهينة الجبهات! فلم تعرف البلاد اِلتفافا شعبيا حول حزب سياسي كما حدث مع الجبهة الإسلامية، وفي اعتقادي إن ما جمعه "الفيس" في المواعيد الانتخابية لم تجمعه الـ"FLN" حين اندلاع الثورة.. لأن فكرة التحرر التي قامت عليها جبهة التحرير الوطني استنزفتها الخلافات والخيبات التي ارتكبها قادة الثورة قبل وبعد الاستقلال، لكن فكرة "الانقاذ" من الأزمة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الاجتماعية التي عصفت بالبلاد إبان الثمانينات سلبت أذهان الجماهير وجذبتهم وحازت إجماعهم، وهو ما تجلى في الانتخابات النزيهة الوحيدة لحد الآن في تاريخ الجزائر!
حقد ومكر "كابرانات" فرنسا الذين حازوا رتب القيادة في الجيش وعَمَالتهم حالت دون استمرار الجبهة في الحكم.. هنا وافق هؤلاء العسكريين نخب ثقافية سياسية تخوفت من تكرار السيناريو الأفغاني والإيراني في الجزائر، ولأشياء أخرى اعتمرت صدورهم.. ودخلت البلاد نفقا مظلما أُغتيل فيه الآلاف وفُقِد الآلاف وهُجّر الآلاف أيضا فمُزّق الجزائريون كل ممزق!
بين "نمحي ربكم" و"اعبدوا ربكم" اشترك الجميع في مسؤولية إراقة دماء الأبرياء.. فلا الجبهة الإسلامية استطاعت التحكم في فصائلها المختلفة مرجعياتها الدينية التي أباح بعضها الدم الجزائري، ولا النظام الذي حكم البلاد وصادر اختيار الشعب واعتبره فاقدا للأهلية، وما كان في الكولسة من مجموعات تقتيل وإبادة واعتقال وتعذيب، ليفشل مشروع الجزائر الإسلامية برؤية الجبهة، ولتتكرس ملكية "الكولون" للوطن من جديد!
شعارات المشيعين لعباسي مدني أعادت للذكرى سنوات الجمر، وطرحت من جديد مصداقية النخب السياسية التي فشلت في تحقيق معشار ما حققه "الفيس"! وأخرجت للواجهة الصراع القائم بين العلمانيين الرافضين لأسلمة النظام، والمتشددين الذين لا يرون إلا "عليها نحيا ونموت"!
والجديد في حال البلاد أن من انسلخ عن هوية الجزائر الأمازيغية التي عربها الإسلام قد طغى وامتدت أطرافه للإعلام والجامعات ومؤسسات الثقافة، وأما من يُحسب على الدين فقد انقسم بين مجرد "ممثل" برداء الإسلام وهو انتهازي يهمه الكرسي أكثر من تقوى الله، ومتدين بروح سعودية أو من دولة أخرى يفكر عبر أثير جدة والرياض وصويحباتها، وينتظر الإيعاز من هناك ليفعل أو لا يفعل.. وبين هؤلاء وأولئك رُهِن مشروع "الفيس" الذي انتشى بشعاراته من شارك في جنازة عباسي مدني.
وعليه فإن التخويف من "تدعيش" الجزائر يقابله هاجس علمنة الجزائريين وبعث ثقافة لا تمت بصلة للدين! ما قد يفتح باب الصراع الذي أرى الخلاص منه في تيار وسطي واع نزيه يقطع دابر كل متشدد في توجهه سواء كان وهابيا أو شيعيا أو بين ذلك وذلك لصالح أجندات خارجية، ليعيد ثقة الجزائريين في الإسلام السياسي من جهة، ويكسر ظهر المصطادين في المياه العكرة من خدم فرنسا وأشباه المثقفين الذين اتخذوا شعارات اللادين لنفخ أسمائهم من جهة أخرى، ويأخذ زمام السلطة في هذه المرحلة الانتقالية.. ولنا في نموذج حزب العدالة والتنمية التركي خير مثال على اندماج الدين والسياسة والانفتاح!
والسؤال الآن: هل يستطيع الجزائريون للمرة الثالثة الالتفاف حول جبهة جديدة لبناء الجزائر؟ ومن هم أقطاب هذه الجبهة؟ وما مرجعيتها؟ وما برنامجها؟ ومتى تظهر وقد تسارع الوقت لإيجاد مخرج من استمرار حراك قارب "العقم" وظهور فقاعات تدعي النخبوية والزعامة!!

بقلم / معمر عيساني

تعليقات

الأكثر قراءة