احلقوا لحية المرجعية واكشفوا بُرقعها

لم يستكمل علماء الأمس من هذه الأمة كل ما أتاحه المنطق والعقل والنقل من نتاج معرفي في حقل الشريعة وأفق الدين، فوقعوا في أخطاء قد نجد منهم من اعترف بها، ومنهم من لم يقف عليها لسهو أو غلو أو كِبر، كما أن لتداول العلماء على مضمار الاجتهاد تراكما أسهم في تفاضل المعارف وتمايزها بشكل قد يبدو لحديثي الفقه نوعا من التناقض والتناثر، واليوم في زمن "التفكير" وسلطة الشك في كل ما يمكن أن تقع عليه عين المفوّهِ قبل المتدبّر، برزت دعوات كثيرة للانقلاب على إرث العلماء، وصقل ما وضعوه مختوما بيد ترفض التقديس وتَنْشَط للتحديث.

قرآن خالص من الله، ومن دونه محض اجتهاد شخصي لا يعدو أن يكون رهين زمانه وظروفه التي انتهت منذ قرون.. هذا هو قانون بعض رؤوس هذا الجيل المعاصر، وإن أخذنا به فله بريق جاذب ولحن شذي وخط ممشوق الحبر سافر الحرف، يُقبِل عليه كل من فُتِن بأقوال علماء المنطق والفكر الحديث، فيثب رافضا صحاح البخاري ومسلم ومن تبع أثرهم، ويمقت ما شذّ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعراف هذا الزمان وما استحدثته لوازم الألفية الثالثة، فيشكك في النقل جملة وتفصيلا.
موضة مفكرينا اليوم تلقي القرآن "منزّها" عن هوامش المفسرين والشرّاح، بلسان حال يدّعي القدرة على أخذه من معينه واستطاعة تأويله واستنباط أحكامه بعيدا عن استحواذ السلف على فهمه وتجلية مقاصده، وكأن للمُحْدَثِين فضل على القدامى وفهم يُلغي شرف حضور أولئك لمواقف الرسول التي كانت سبب النزول وفاتحة التشريع ونقطة القياس.
نفر من الذين استقرت مزامير التغريب في آذانهم وبعِلم قليل قد زاد باتجاه الرفض لا الانتماء، وفهم متسرّع مع جيش من رواد الإنترنت وشعبية كرتونية أغلب من يصرخ بها شواذ ومتحررون ومنبهرون بالآخر.. أعلنوا الردة على التراث الديني جملة وتفصيلا دون تمحيص وفرز للصحيح منه والموضوع، فأبردوا صدور أعداء لطالما اجتهدوا في شق الصف ونقض الأساس لزعزعة ثبات الدين وزرع الريبة في قلوب جميع من اعتقد بهذا الإسلام حبلا متينا من الله عز وجل.
هم يريدون شريعة صافية من اجتهاد الأوائل، إلهية لا كهنوتية! حجتهم سوء تاريخ الصحابة عقب موت النبي واختلافهم، ومكر السلاطين في حشد علماء البلاط لتفصيل أحكام حسب مقاس مُلكهم.. والكمّ الهائل من الإسرائيليات والخرافات والمناقض لما يتعارف عليه أهل هذا العصر.. لكنهم بسلوكهم هذا يكرّسون مبدأ "السلطة الدينية" حين يفرضون رؤيتهم على حساب الأجيال القادمة، وهذا يعني أننا سنصل إلى فقه متجدد بتغيّر الأجيال، فليس أيّ منها مضطر للعمل بما سنّ سابقوه!أ
بهذه الطريقة سيلغي علماء العصر آية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" ويفتحوا بوابة توصلنا إلى إسلام ليس ذاته الذي أتى به النبي، ولن يخرجوا عن خندق "التراثية" فهم بمضي بضع قرون لن يكونوا إلا في قمامة التاريخ بالنسبة للآتين بفكر آخر ورؤية لن تماثل بالضرورة ما نحن عليه في زماننا وإن بدا فخما مُهابا.
الأصل في الدين الالتزام وليس لَيّ رقبته ليتبع الأهواء، وقيمة العبد في جهاد نفسه من هوى وأفكار ليحقق ما ارتضاه المولى من أحكام لم يكن ليضبطها مراهقو الفايسبوك والندوات الفندقية المترفة! الذين لا همّ لهم إلا ادعاء تحرير المرأة لجعلها متاحة للجميع اختلاطا ولباسا فاضحا وعلاقات مفتوحة، واللعب على أوتار ترويج الكحوليات والشذوذ والمعاملات الاقتصادية الربوية ومختلف الآفات التي يحاول الغرب ذاته التملّص منها لما أحدثته من أوجاع في هيكل حضارته. 
نحن لا ننفي ضرورة تحديث كثير من مفاهيم الإسلام ومضامينه بطريقة لا تلغيها بل تصنفها ضمن عصرها المُعاش، بأخلاق تحترم الرعيل الأول الذي أوصل لنا القرآن محفوظا من أي تحريف، وفي هذا المقام لا نروّج للفكر الوهابي ولا لأي طرح أو طريقة أو حوزة أو فئة، بل ننشد الإسلام النقي الواحد الذي لا يؤمن بالفئة ولا بالمذهب.
وعلى ذوي الألباب ممن لا يغريه بريق الإعلام وصوره ألا ينجر خلف قطيع المطبلين والمروجين لفكر الحداثة الانقلابي الذي لا هدف له في النهاية إلا الانسلاخ في مشهد يعيد تراجيديا ثورة الأوروبيين ضد الكنيسة، هنا الأمر يختلف تماما فالرهبان حينها كانوا بحق حجر عثرة أمام التقدم العلمي والخروج من دائرة الأسطورة.
أما الحال العربية فتشي بسر واحد يكفي: خرابهم وتخلفهم قوميّ لعروبتهم وليس لدينهم، فهم سيبقون جهلة ولو أشركوا ولو ألحدوا، وتكفي أسماء العلماء الملحدين الذين اعتنقوا الإسلام قناعة ويقينا بعدما رأوا الحجج الدامغة والإعجاز القراني في عديد العلوم الدقيقة والحديثة، مما يبشر بإسلام عالمي يتبرأ من عروبة التصقت به ظلما وبهتانا، ألا إنه رسالة للعالمين! وما نحن إلا قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

بقلم / معمر عيساني