لماذا نزيد في معاناة هؤلاء؟؟


أصبحت رؤية المشردين والمختلّين في شوارعنا أمرا جد طبيعي، بل تأقلم عدد ممن طمس رحمته بسخافته مع الوضع فجعل من هؤلاء الضعفاء تسلية وتمضية لأوقات فراغه.. وأصبحت الهواتف النقالة خير مترجم لكرامة الإنسان بكل تلك الفيديوهات التي تصور أعمال قذرة في حق من فقد عقله أو حتى رزقه..
كلما تجولت في شوارع بعض الولايات الجزائرية، أُفجَع بنساء وشيوخ وأطفال يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، تعرف في وجوههم قسوة التشرد، منهم من طوت الدنيا أيام هنائه، فاستحال معوزا لا يجد قوت يومه، ومنهم من أضنته المصائب ففرّ إلى عالم آخر يتناسى به واقعه، ليمسي في وعيه أسعد الناس وفي وعي الآخرين أتعسهم بفقدان عقله... وبين هؤلاء وأولئك أمور مشتبهات.
والجزائر على عكس أغلب الدول العربية مرت بعشرية سوداء، خط الإرهاب تفاصيل مآسي شعبها.. فامتلأت نفسياتهم بمشاهد الدمار والقتل والتخريب.. وتعكر المزاج لديهم بالعنف.. وتَولّد شبه انفصام لدى الكثيرين منهم.. ولا ريب أن المتتبع لما جرى آنذاك يدرك مدى اللاإنسانية التي اتسمت بها الحياة وقتها.. فلا أظن قوامة نفس من رأى والديه يقتلان أمامه، ومن شهد اغتصاب أخته وهو مكتوم مهزوم.. تلك الأحداث شكلت المجتمع الجزائري المعاصر، وكانت السبب الرئيسي لكل ما نراه من انحلال أسري، واستفحال للجريمة والسطو، وتفكك في العلاقات الأسرية، والعُرَى الاجتماعية بين الجيران وسكان الحي الواحد..
وأمام هذه الفسيفساء الجديدة، أصبح الجزائري البسيط مع تراكمات التسعينيات، وفجوة سنة 2000م إلى حد اليوم، وحيدا في مواجهة التمرد.. تمرد الزوجة ونزعتها الانفصالية لتكوين مملكتها التي تحكمها بمفردها، تمرد الأخت والابنة وشغفهما لحياة مضاهية لحياة "العشق الممنوع"، تمرد الجيران الذين أصبحوا عصابات منظمة تنتظر الفرصة المناسبة لعملياتها "الإستراتيجية".. تمرد المجتمع بكل ما ظهر فيه من سحر وشعوذة، وإدمان وفسق ودعارة وشذوذ، وغلاء واحتكار، وطبقية وترف أصحاب "الشكارة"..
إذن.. استعد لدخول مصحة عقلية.. لا أجعل من كل الجزائريين مرضى نفسانيين.. وإنما هي الفئة التي تعرضت لكل ما ذكرته، فضيق الحياة المعاصرة وتحدياتها وتناقضاتها يؤثر بشكل أو بآخر على الفرد والمجتمع.. والأخبار التي تملأ الصحف اليومية من جرائم شرف، وزنا محارم، وقتل للأولياء والأبناء تعبر عما أقصده..
حسنا، قد أكون غير موضوعي فيما قلته لدى من لا يحب الاعتراف بالواقع.. ولكن لنتجاوز هذه التحليلات ونتجه إلى أكوام البشر التي تعُج بها شوارعنا.. فقراء بدون مأوى، منهم النساء قبل الرجال، بل نجد أسرا بالكامل تبيت في العراء.. متسولون يبحثون عن دينار لأكفهم ونظرة شفقة لقلوبهم.. القلة منهم على صدق في حاجتهم، وأكثرهم جشِع مهووس، مريض القلب منحرف الهوى.. أما عبّاد المخدرات فحدث ولا حرج..
"أهل الليل" هؤلاء زاد في محنتهم سلوك المجتمع معهم، وقسوته التي أنستهم الشعور بالإنسانية.. وحتى وإن كانوا يمثلون أدوار "المسكنة" إلا أن السخرية والمذلة والتحرش والعنف الذي يواجهونه أثخن قلوبهم بالأسى وعقولهم بالخبل.. فتاة في العشرينيات من عمرها.. متسخة الملامح تتعرى أمام الملأ.. رجل في الأربعين يكشف عورته أمام المارة في الطريق.. عجوز تطلق من فمها قناطير من الألفاظ النابية يتسابق عليها المشاغبون لإغضابها.. شيخ هرم يضرم المراهقون النار في ملابسه ويتضاحكون عليه وهو يتمرغ في الأرض ويصرخ.. فتاة أخرى تتناوب عليها ثلة من المخمورين اغتصابا وضربا.. رجل مبتور الأعضاء: كلى ،عينان وزد.. والقائمة مفتوحة..
"المدنية" المعاصرة جعلت القسوة في قلوب البعض تطغى على بقية مشاعره الرحيمة.. وهنا لابد من وضع حد لكل المشاهد اللاإنسانية التي سردتها.. لماذا لا ننشئ مراكز خاصة تأوي هؤلاء المشردين والمختلين وحتى المدمنين.. وحتى وإن وجدت فلابد من تفعيلها وتعميمها.. لماذا لا ننشئ نظام شرطة خاص بترقية صورة المجتمع.. لتحميه من السلوكيات اللاواعية لبعض فئاته، وتقضي على مهن التسول والبغاء والمتاجرة بالمخدرات، فتمسي شوارعنا أكثر احتراما و"حُرْمَة" لتجوال العائلات.. قد تكون هنالك مجموعة من المبادرات الطامحة لمثل هذه الغايات.. لكنها تصطدم بجدار كواليس رجال السياسة والاقتصاد، من يستفيدون من تعفن الوضع والاسترزاق من معاناة الشعب.. قد تكون البداية أكثر نجاحا إذا بدأت على مستوى الأفراد والأحياء الصغيرة.. ولا أظن فشلها إذا ما كفلها أعيان القرى والمدن والمقاطعات..
لن أوسع دائرة اللوم والعتاب.. ولن أجعل من النظام شماعة لكل مساوئ المجتمع الذي يتحمل أفراده في النهاية ما ينتج فيه من تخلف وعنف وتردي في المستويات كافة.. ولكن لابد من تطهير شوارعنا وجعلها أكثر طمأنينة وأمن.. لأننا أولا وأخيرا مسلمون.. ولا أرى الإسلام إلا منهاجا لجعل حياتنا الاجتماعية أكثر مواءمة لطبيعة آدميتنا..
بقلم / معمر عيساني



  
 

تعليقات

  1. السّـلامُ عليكُـم أخي العزيز معمّر عيساني..

    و ها أنا أقفُ هُنا مُجدّداً.. مُتابعاً و مُطالعاً لجديد صفحاتك.. (بـجُـزئيهـا.. هذا.. و الآخَر..؟)

    و إن شرعتُ في ذلك منذُ مساء الأمس.. فقد أنتهيتُ مُطالعة 3 ثلاث مقالات على نحو مُرتّب لحدّ السّاعة.. و بعضُها تفاعلتُ معه للغاية..! و من حيثُ لا أدري...!


    فـكُلّ جديدك و كما عوّدتنا أخي معمّر.. مُفيد للغاية.. و مُهمّ.. و جذير بالاطلاع و المُتابعة.. فهُوَ يُلامسُ و يشمَل جوانب مُهمّة من قضايانا الحسّاسَة على اختلافها و تعدُّدهـا.. بررؤيـة إسلاميّة مُتكاملة الأبعَاد الزمنيّـة و الواقعية...

    --------------------------

    سأواصلُ تصفّح المزيد من المقالات و المواضيع.. و سأعُودُ لك أخي بإذن الله.. ربّما غداً الجُمعة..

    فمسَاء هذا الخميس.. لازلتُ أجدُ كل كياني يهتف.. و يُردّد.. "إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين..."

    و كُل فرائصي تُنادي.. "وعجلتُ إليك ربي لترضى..."


    احفظ الله يحفظـك..

    و في أمـَـان الله.

    ---------------------------

    ردحذف

إرسال تعليق

رأيك يهمني..
تفضل الآن، واكتبه لينشر مباشرة دون تسجيل أو انتظار..
فهذه مساحتك الحرة للتعبير عنه..

الأكثر قراءة